في النقد وتطوره
(الإهداء :إلى العزيز الشيخ عبدالرحمن جاسم)
يحتل النقد الأدبي في العصر الحديث مكان الصدارة في علوم العربية، فقد خطا خطوات نوعية أصبح من خلالها نوعاً خاصاً من المعرفة، تكوّنه أصولٌ، ونظريات، وقواعد ومناهج نابعة من طبيعة العلوم الإنسانية المختلفة، ومتأثرة بتطورها، وتفاعلها مع بعضها، وتأثرها ببعضها .
وشتان ما بين المعنى اللغوي الذي اشتقت منه كلمة (نقد) وأعني بذلك : تمييز جيد العملة الفضية، أو الذهبية من زائفها مما يستلزم الخبرة والفكر، ثم الحكم، وما يعنيه النقد اليوم، وما يحدثه من تأثير بالغ في الأدب، والأدباء، وإسهامه في تقويم الأدب، وتوجيه مساره، وكذلك في رقي الأدب، وتقدمه.
وإذا كانت كلمة نقد في اللغات الأوربية Criticism وهي مأخوذة من الفعل اليوناني Krinein ومعناه في الأصل الحكم أو التفكير، فإن هذا المعنى هو الأقرب إلى معنى كلمة نقد، ولا ننس أنّ الأصل في كلمة النقد في العربية هو الضرب، ثم استعملت للنقر، ولالتقاط الطائر الحب، والاستعمال الثالث –وهومتأخر- بمعنى تمييز الدراهم لمعرفة جيدها من رديئها، واستعملت الكلمة بعد ذلك بمعنى اختلاس النظر إلى شخص ما تقول: نقدتُ إليه أي اختلست النظر إليه من حيث لا يراني لأتعرف على أحواله. والمعنيان الأخيران لا يقعان بعيداً عن مدلول النقد الفني.
ولأن قراءة أي أثر أدبي إنما تهدف إلى تحليله وشرحه وتفسيره، والحكم عليه إلا أن هذه القراءة لم تعد أمراً يسيراً، فإن لها أصولها، وقواعدها ، مثلما لم يعد النقد بالأمر السهل إنْ لم يتسلح الناقد بقواعد النقد الحديث، ونظرياته، ويمتلك اطلاعاً واسعاً على النقد القديم، وأساليبه، وطرق تطوره ، كذلك يحتاج الناقد إلى ثقافة واسعة من مختلف العلوم والمعارف الإنسانية تمنحه القدرة على فهم النص الأدبي فهماً صحيحاً، ودقيقاً يمكنه من شرحه، وتحليله، والحكم عليه ، ويقول الدكتور محمد غنيمي هلال : (( يقوم جوهر النقد الأدبي أولا: على الكشف عن جوانب النضج الفني في النتاج الأدبي، وتمييزها مما سواه على طريق الشرح، والتعليل، ثم يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها.))
ولقد تشعب مفهوم النقد في العصر الحديث، وتعددت مسمياته بين النقد الأدبي، والنقد الانطباعي ، والنقد البلاغي ، والنقد التطبيقي ، والنقد غير المعلل، والنقد الفطري ، والنقد الفلسفي، والنقد اللغوي ، والنقد المسرحي ، والنقد المقارن.
والناظر في هذه المسميات، والتعاريف لا بد أن يلاحظ المسار التاريخي لتطور النقد الأدبي ، فلا شك أن بعض هذه المسميات، والتعاريف مأخوذة من نظرة النقاد العرب القدامى وآرائهم النقدية . ولكن مع اختلاف التعريفات التي عُرف بها النقد الأدبي، فهناك عنصر مشترك بينها كلها هو:
((أنه مجموعة الأساليب المتبعة( مع اختلافها باختلاف النقاد) لفحص الآثار الأدبية للمؤلفين القدامى، والمحدثين بقصد كشف الغامض ، وتفسير النص الأدبي ، والإدلاء بحكم عليه في ضوء مبادئ ومناهج بحث يختص بها الناقد من النقاد، ومن القرن السادس عشر بانجلترا وإيطاليا، والسابع عشر بفرنسا وألمانيا أصبحت وظيفة الأديب وظيفة مستقلة معترفاً بها يُعدُّ النقد الأدبي أساسها النظري لذلك دخلت فكرة النظرية الأدبية بما لها من قواعد، وفلسفة، وفنون، وعلم، وجمال في حيّز مفهوم النقد الأدبي، ولا يزال الجدل قائما حول ماهية النقد الأدبي.))
ومن الواضح للقارئ أننا نؤكد سعة ثقافة الناقد ، وسعة مساحة النقد، وامتدادها، وتأثرها بالعلوم الإنسانية ، أو دخول هذه العلوم إلى عالم النقد ، ومدها يد العون للناقد في اتباع المنهج النقدي الذي يراه مناسباً في تحليل، وشرح ، أو الكشف عن الأثر الأدبي.
ويقول الدكتور محمد غنيمي هلال:إن النقد علم من العلوم الإنسانية. ويقودنا ذلك حتماً إلى أن نتحدث هنا في علاقة النقد بهذه العلوم الإنسانية ، ثم يذهب الباحث إلى تحديد ذلك بالنقاط الآتية ؛ موضحا من خلالها طبيعة النقد، وماهيته :
1. فللنقد صلة وثيقة بالعلوم الإنسانية التي تدرس نشاط الإنسان بوصفه إنساناً ، كالفلسفة بفروعها المختلفة ، والتاريخ، وعلوم اللغة، والاجتماع ، وهذه العلوم قسيمة للعلوم التجريبية التي تدرس الإنسان نفسه من جانب فيزيولوجي، أو بيولوجي.
2. وطبيعة البحث في النقد الأدبي شأنها في ذلك شأن العلوم الإنسانية الأخرى تختلف عن طبيعة البحث في العلوم التجريبية، فإذا قلنا مثلا : إن عنصر كذا يضاف لعنصر كذا لينتج من مزجهما مركب كذا، كانت النتيجة حتمية موضوعية لا سبيل إلى الاختلاف فيها إلا بالخطأ والصواب ، وليس الأمر كذلك في العلوم الإنسانية، ومنها النقد، فالخلاف فيها لا ينحصر قطعا في دائرة الخطأ والصواب، ولا يتناقض بطبيعته لأن علينا أن نؤمن أن للظاهرة الإنسانية الواحدة جوانب مختلفة ، فالبحث فيها يُغني ويكمل بالخلاف.
3. ومن الجلي أن دراسة النقد الأدبي تمس الأدب في حاضره لتوجهه في مستقبله،...وأمام الناقد تراث ضخم من نظريات النقد في عصور التاريخ المختلفة ، وهو لا شك قادر على الاستفادة منها، ومفاضلته بينها ، وهو ما نستطيع أن نسميه ( نقد النقد) وهو فيها صادر عن حقائق موضوعية يجب أن تكون دعامة لذوقه السليم، والذوق هنا غير مقصور على الناحية الذاتية التحكيمية، بل يتضمن دراية وخبرة واسعة، ومراناً؛ فدعامته تجارب فنية عاش فيها الناقد، وهضمها ، فالناقد حرّ، ولكن حريته تتضمن ضرورة لا مناص منها حتى يكون نقده ذا قيمة في تاريخ الفكر.
4. ويجمل ألاّ نغفل مبدأ آخر فيه ضمان لصحة النقد وإيتائه ثماره، وهو أن كلَّ أديب يضيف شيئا إلى تراث أمته، وأن أدب كل أمة جزء من الأدب العالمي، فالآثار الأدبية العالمية تؤلف وحدة عامة يجب أن يقاس النتاج الأدبي الحديث بنسبته إليها .
5. والناقد يرجع إلى أسس فنية خاصة بالأجناس الأدبية وبالمعاني التي يتناولها الكاتب وصلتها بالحقيقة، والمجتمع والغرض الفني الذي يهدف إليه، ثم في صياغة المعاني وعرضها ، ويرجع كذلك إلى مجموعة من النظريات والإدراكات النفسية، والاجتماعية ، وهي أسس ثقافته الفنية، كما يرجع إلى مجموعة من القيم التي تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن أدب إلى أدب، وله بعد ذلك تجاربه الفنية الطويلة فيما اطّلع عليه من نصوص أدبية ، وهو بعد ذلك كلّه يثير في كل عمل أدبي المسائل الخاصة به على حسب أهداف الكاتب، ومدى نجاحه في إخراجها ، وفي هذه الاعتبارات الأخيرة تتمثل ذاتية الناقد إلى جانب ما تجب مراعاته من الحقائق الموضوعية الأخرى... وما يجب أن يعتصم به الناقد من التجارب الفنية، ولكن الذي نريد أن ننبه إليه أن ذاتية الناقد ليست مطلقة، وأن الناقد يرجع دائما إلى حقائق غير محصورة في ذاته، وأن النقد الصحيح كالأدب وحدة غايتهما الإنسانية، والفنية .
ويقوم النقد على الثلاثية المشكلة له، وهي :
المبدع،والنص، والمتلقي ، وربما يضيف أمرا آخر، وهو ما يوجهه النقد في المستقبل ، بمعنى التطور ، وإيجاد أنواع أدبية أخرى ، وخلق نقلة نوعية في تغيير مفاهيم العمل الأدبي السائدة.
والنقد يشكل المرحلة التالية للنص ، ويرتبط به ارتباطا وثيقا ، وإن كان المبدع أول النقاد في تقويم عمله قبل تقديمه للآخرين، ورغم أهمية هذا النقد في تهذيب العمل وصقله إلا أنه لا يصادق على نجاحه إلا من قبل الآخرين من خلال تقويمهم له ، وإبداء آرائهم، وتقديم اكتشافاتهم لمواطن الجمال، والإبداع ، أو غير ذلك .
إلا أن الثقافة، والتجربة المضافة إلى الموهبة تمدّان المبدع بأسلوب النقد لعلمه، ومحاولة تنقيته مما يعلق به من عيوب، لكنها لا تصنع مبدعا رغم ما تقوم به من إسناد كبير لإبداعه.
ولهذا فإن النقد موهبة في أساسه مثله في ذلك مثل أية موهبة شعرية، أو نثرية لدى الشعراء ، والكتاب، وإذا كانت هذه الموهبة هي الأساس في بناء الناقد فإنها حتما ، تحتاج إلى المعارف، والدربة، والمران، وسعة الاطلاع كي تقوم بواجبها كما يجب ، يقول الدكتور محمد غنيمي هلال : (( فللنقد صلة وثيقة بالعلوم الإنسانية التي تدرس الإنسان بوصفه إنسانا كالفلسفة بفروعها المختلفة ، والتاريخ ، وعلوم اللغة، والاجتماع، والنفس....
وهذه العلوم قسيمة للعلوم التجريبية التي تدرس الإنسان من جانب فيزيولوجي، أو بيولوجي.
وحين يمتلك الناقد أدواته النقدية الأصلية، فإنه يساهم بشكل كبير في توجيه الحركة الأدبية، ويضعها على الطريق المؤدية إلى أهداف يعمل المبدعون جادين للوصول إليها، وبهذا يقدم النقد الخدمة السامية المنتظرة منه: (( وحين نقول إنه يخدم المبدع نعني أنه يقرب صاحب الأثر من القراء بأن يشير إلى إنجازه دارساً، محللاً،مفسراً، مقوماً، يصل إلى حكم سليم تقوده إليه مؤهلاته الذاتية، وأدواته النقدية، ودربته، وممارسته التطبيقية ، فيكشف مواطن التفرد في هذا المبدع ، أو ذاك . ويشير إلى ماله من إنجاز وما لسواه، فيقف على أسرار لم تكن واضحة حتى للمبدع نفسه...))
ومثلما يشير تطور الإبداع في الفنون الأدبية إلى تظافر جهود، بغض النظر عن التميز الذي يسجله مبدع على آخر، فإن تطور النقد يشير إلى مثل هذا ، إذْ تشترك العلوم على اختلافها في الوصول إلى هذا التطور ، ودفع مسيرته ، إلا أن هذا الإبداع يسجل دائما لشخص موهوب متفرد التقت عنده أسباب الإبداع، وتلقتها موهبته ، فعرفت كيف تعيدها بشكلها الجديد، فحق لهذا المبدع أن يحمل براءة وبراعة التقدم والإثراء رغم إفادته الكبرى من كل ما تقدمه (( ويجمل إلا ّ نغفل مبدأ آخر فيه ضمان لصحة النقد وإيتائه ثماره وهو أن كل أديب يضيف إلى تراث أمته، وأن أدب كل أمه جزء من الأدب العالمي، فالآثار الأدبية العالمية تؤلف وحدة عامة يجب أن يقاس النتاج الأدبي بنسبته لها.
ثم إن للإلمام بالعلوم، والثقافات المختلفة ما يوسع دائرة النقد، ويمنحه إمكانية سبر أغوار النص بأكثر من أداة أو أسلوب، وإن كان من حق الناقد أن يكون ميالا إلى منهج نقدي أكثر من غيره، وبهذا يساعد الناقد القارئ على فهم النص وتذوقه والتفاعل، والانفعال أي على الجانبين العقلي والعاطفي، كذلك فإن الناقد بعمله هذا إنما يبصِّر المبدع بمواطن إبداعه، ويرشد إلى أماكن قصوره، وربما يقدم له البديل الأفضل ، وربما يقول ما لم يخطر على ذهن الشاعر.
وقد قدمت النظريات العلمية في التطور ، والنظريات النفسية، والنظريات الإجتماعية دراسات مشبعة أفاد منها النقد في دراسته للنص الأدبي، وتطوره من القديم إلى الحديث، وفي النظر وراء النص، وإماطة أقنعته ، وفي أثر الحياة، والبيئة، وما يدور فيها من صراعات، وانعكاس ذلك على الأثر، أو النص الأدبي، وهو ما يهدف إليه النقد في الوصول إلى لحكم النقدي، المستند إلى المنهج التكاملي بحيث يكون بمقدرته التشخيص، وإظهار ما خفي، وتفسير ما بدا، وما غمض تفسيراً علمياً مقنعاً يقدم الحلول الصحيحة التالية لكل إجاباته، ويرجع ستانلي هايمن تطور النقد، وتفوقه إلى الأساليب، والمناهج الجديدة، ففي متناول النقد الحديث ضروب من المعرفة عن السلوك الإنساني ، وفي جعبته تقنيات جديدة مثمرة ، وهذه التقنيات النقدية الجديدة، وهذه الاتجاهات في البحث تعتمد في أكثر أحوالها (على وفق ما يقوله) فروضاً أصبحت أساسية في الفكر الإنساني الحديث ، مميزة له . ويعود الفضل في هذه إلى أربعة علماء من مفكري القرن التاسع عشر ، وأوائل العشرين، وهم : دارون، وماركس، وفريزر، وفرويد، وبعض هذه الفروض يعد مفتاحا لما وراءها ، وهي جديدة نسبيا في النقد المعاصر على أن يشير أن ليس هناك ناقد واحد يقبل كل هذه الفروض مجتمعة ، فأما دارون فمنه جاءت الفكرة بأن الإنسان جزء من النظام الطبيعي ، وأن الحضارة تطورية ، وأما ماركس فقد ذهب إلى أن الأدب هو الذي يعكس ، ولو بطريقة معقدة ملتوية أحيانا ، العلاقات الاجتماعية والإنتاجية ، وأما فرويد فيرى أن الأدب تعبير مقنع ، وتحقيق لرغبات مكبوته قياسا على الأحلام، وأن هذه المقنعات تعمل حسب مبادئ معروفة ، وأن هناك مستويات، ومعارج عقلية تقع وراء الوعي ، وأن بين الرقيب، والرغبة في التعبير صراعاً مستمراً، وأما فريزر، فهو صاحب الأفكار عن السحر البدائي والأسطورة، والشعيرة البدائية، وأن هذه كلها تكمن في أساس أعلى الأمثلة، والمواد الأدبية.))
وعلى الرغم من خطورة هذه الدراسات، ووجوب الإفادة منها بحذر شديد، فإنها تدل على اتساع مناهج الدراسات النقدية وتطورها، وتشير إلى وجوب امتلاك الناقد لمخزون علمي وثقافي يمكنه من ممارسة النقد بصورة سليمة.
والناقد للأدب لابد له من امتلاك اللغة، ومعرفة جذورها وتطورها، وأساليب صياغتها، والانحراف بها عن المألوف، وهو في أمس الحاجة إلى علومها في النحو والصرف، والبلاغة.
ومن أبجديات الناقد أن يكون ملما بالأصول الأولى للنقد، وكيف كان عند القدامى واتفاقهم، واختلافهم ، ومدى فهمهم للنقد الوافد عليهم.
كذلك فإن لنقد النص أسلوبه الخاص في القراءة ،ومستوياتها في التعرف عليه ثم فهمه، ثم معايشته، ثم نقده ، فالحذر دائما من الوهم الذي يذهب بالناقد أنه فهم مقاصد وخبايا النص للقراءة الأولى.
من كتاب محاضرات في النقد الأدبي الحديث
( تأليف الدكتور عبد الحق حمادي الهواس)