لمحبي البلاغة أدخلوا و لن تندموا
محاضرات في علم البلاغة
إعداد د. سالم الخماش
التشبيه
تعريف التشبيه: لغة: هو التمثيل، يقال: هذا مثل هذا وشبهه.
واصطلاحاً: هو عقد مماثلة بين شيئين أو أكثر وإرادة اشتراكهما في صفة أو أكثر بإحدى أدوات التشبيه، نحو: خالد كالأسد في الإقدام.
أركان التشبيه أربعة: عند تأمل المثال السابق نرى أنّها:
1 - المشبّه: خالد.
2 - والمشبّه به: الأسد.
3 - ووجه الشبه: الإقدام.
4 - وأداة التشبيه الكاف.
والركنان الأوّلان ـ وهما المشبّه والمشبّه به ـ يسميّان طرفي التشبيه.
أقسام التشبيه باعتبار حال طرفيه: ينقسم من حيث طرفيه إلى أربعة أقسام:
1 - تشبيه المحسوس بالمحسوس: وهو أن يكونا مدركين بإحدى الحواسّ الخمس: (حاسة البصر، أو السمع، أو الذوق، أو اللمس، أو الشم) نحو: (كأنهن الياقوت والمرجان)، صوت المدافع كالرعد؛ عصيرها كالعسل المصفى، رائحة الروض كالمسك. وقد يكون المشبه واحدا من هذه الأمور والمشبه به واحدا آخر، نحو: كلامه كالماء الزلال. ويدخل في هذا الضرب:
التشبيه الخيالي، وهو المعدوم المؤلف من من أمور عدة يمكن إدراك كل واحد منها بالحس، نحو:
خـودٌ كأنّ بنانــها في خضرة النقش المُزَرّد
سمـك من البـِلّوْر في شبَك تكون من زبرجد
فالسمك الذي من هذا الضرب والشبك الذي من هذا الصنف لا يوجدان في الواقع حتى يُدركا بالحواس، ولكن هذه الأجزاء منفردة موجودة ويمكن إدراكها بالحواس.
2 - تشبيه أمر عقلي بآخر عقلي: نحو: العلم حياة، والعصبية جهل.
3 - تشبيه المحسوس بعقلي، نحو قول الشاعر:
أَهديتُ عطرا مثل طيب ثنائه فكأنما أهدِي إليه أخلاقَه
وقد أدخل علماء البيان في هذا النوع:
التشبيه الوهمي، وهو ماليس مدركا بإحدى الحواس الخمس، لكنه لو أدرك لكان مدركا بها، نحو ما ورد في شأن شجرة الزقوم: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ). وقول امريء القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونةٌ زرق كأنياب أغوال
4 - تشبيه العقلي بحمسوس، نحو: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)، ونحو: العلم نور والجهل ظلام.
تقسيم طرفي التشبيه باعتبار الإفرادا والتركيب: ينقسم باعتبار طرفيه من حيث الإفراد والتركيب إلى:
1 - تشبيه مفرد: وهو ما كان فيه الطرفان مفردين، وهو ثلاثة أقسام، ما كان فيه الطرفان:
أ - مطلقين، نحو: شعر كالليل؛ وجه كالبدر.
ب - مقيّدين، نحو: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ونحو قل الشاعر:
والشمس بين الأرائك قد حكت سيفاً صقيلاً في يدٍ رعشاءِ
ج - مختلفين، بأن يكون المقيد هو المشبه نحو:
إذا الأرض أظلمت كان شمسا وإذا الأرض أمحلت كان وبْلا
أو يكون المقيد هو المشبه به، نحو:
أغرُّ أبلجُ تأتمُّ الهداة به كأنه علم في رأسه نار
2 - تشبيه مركّب بمركّب، كقوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
فالمشبه هو مجموع الغبار والسيوف المتألقة في خلاله، والمشبه به هو الليل الذي تتهاوى كواكبه.
التشبيه باعتبار وجه الشبّه: ينقسم التشبيه باعتبار وجه الشبه الى ستة أقسام:
1- وجه شبه واحد حسي ، نحو: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)، فوجه الشبه هنا الكبر والضخامة.
2- وجه شبه واحد عقلي، نحو: قوله (ص) "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " أي في الهداية، ونحو: زيد كالأسد، أي في الشجاعة.
3- وجه شبه متعدد، حسي أو عقلي، نحو: المصباح كالشمس (وجه الشبه الشكل والإنارة؛ هو شمس (وجه الشبه: الإشراق والعلو النباهة والرفعة).
4- وجه شبه مركب، وهو ما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد، وهو إما:
أ- مركب وحسي، كقول الشاعر يصف الثريا:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى كعنقود ملاحية حين نوّر
وجه الشبه هيئة حاصلة من اقتران أشياء مدورة بيضاء صغيرة في نظر العين على كيفية مخصوصة، وكقول جبار بن جزء:
والشمس كالمرآة في كف الأشل لما رأيتها بدت فوق الجبل
فوجه الشبه هنا هيئة حاصلة من شيء مشرق ذو حركة تبسط الشعاع تارة وتقيضه تارة أخرى.
ب- أو مركب وعقلي، نحو قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) فوجه الشبه هو حرمان الانتفاع من شيء عظيم النفع مع تحمل تعب استصحابه.
أدوات التشبيه: أدوات التشبيه ألفاظ تدل على المماثلة، وهي على أقسام:
1 - حروف، مثل (الكاف) و(كأنَّ)، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ).
2 - أسماء، مثل: (مثل) و(شبه)، (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).
3 – أفعال، نحو: يحكي ويضاهى، وأفعال اليقين أو الرجحان مثل: ظنّ وحسب وجعل، وخال. (وجعلنا الليل لباساً)، وقال الرفاء يصف شمعة:
مفتولـة مجدولة تحكي لنا قد الأسـل
كأنـها عمر الفتى والنار فيها كالأجل
وقال الشاعر:
وتراه في ظُلم الوغى فتخاله قمرا يكر على الرجال بكوكب
التشبيه باعتبار أداته: التشبيه باعتبار أداته ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - التشبيه المرسل: وهو ما ذكرت فيه الأداة، نحو: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء).
2 - التشبيه المؤكّد: هو ما حذفت منه أداة التشبيه، نحو قوله:
أنت نجمٌ في رفعة وضياء تجتليك العيون شرقا وغربا
وقوله:
هم البحور عطاءً حين تسألهم وفي اللقاء إذا تلقاهم بُهْمُ
ويسمى (مؤكّداً) لإيهامه أن المشّبه عين المشبّه به.
3- التشبيه المجمل: ماحذف منه وجه الشبه، نحو:
وكأنّ الشمس المنيرة دينـ ـار جلته حدائد الضرّابِ
4- التشبيه البليغ: وهو ما حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، وسمي بليغا لما فيه من مبالغة في اعتبار المشبه عين المشبه به، نحو: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، (وَجَعَلْنَا الْلَيْلَ لِبَاسًا)، وقول الشاعر:
أين أزمعتَ أيّهذا الهُمامُ نحن نبتُ الرُّبا وأنتَ الغَمامُ
ومنه ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه، نحو:
والريح تَعْبث بالغصون وقد جرى ذهبُ الأصيلِ على لُجيْن الماءِ
أي جرى الأصيل الذي كالذهب في الصفرة على الماء الذي كاللجين (الفضة) في البياض والصفاء، ومثله: استعن بمصابيح آراء الرجال.
تقسيمات أخرى للتشبيه
ينقسم (التشبيه) باعتبار تعارفه وعدم تعارفه إلى ثلاثة أقسام:
1 - التشبيه الصريح، وهو ما تقدّم من التشبيه المتعارف عليه، مما ليس ضمنيا ولا مقلوبا.
2 - التشبيه الضمني، وهو ما لم يصرح فيه بأركان التشبيه على الطريقة المعلومة، بل يُفهم من معنى الكلام، نحو: قول الشاعر:
من يهُنْ يسهل الهوانُ عليه ما لِجُرحٍ بميّت أيـلامُ
وقول أبي العتاهية:
ترجو النجاةَ ولم تسْلك مسالكها إنّ السفينةَ لا تجري على اليَبَس
وقول ابن الرومي:
ويلاه إنْ نظرتْ وإنْ هي أعرضتْ وقْعُ السهام ونزعهنّ أليمُ
3 - التشبيه المقلوب: وهو ما يجعل فيه المشبّه مشبّهاً به، لادعّاء أن المشبه أتمّ وأظهر من المشبّه به، كقول البحتري في وصف بركة:
كأنّها حين لجّت في تدفّقها يدُ الخليفة لماّ سال واديها
محاولاً إيهامنا بأن يد الخليفة أقوى تدفّقاً بالعطاء من تدفق البركة بالماء.
وبدا الصباح كأنّ غرته وجه الخليفة حين يُمتدحُ
ومنه قول الآخر:
أحِنُّ لهم ودونهم فلاةٌ كأن فَسيحَها صدْرُ الحَليم
استعمال الألفاظ
استعمال الألفاظ إما أن يكون استعمالا حقيقيا وهو استعمالها فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب، نحو: أثمرت الشجرة؛ أقام الصلاة، قتل الدابة، وإما مجازيا، وهو استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب، نحو: بنى الأمير مسجدا (مجاز عقلي)، حكمت المحكمة على الجاني بالسجن (مجاز مرسل)، ضحك المشيب برأسه (استعارة مكنية).
والمجاز نوعان: عقلي، ولغوي.
(أ) المجاز العقلي: وهو الذي يكون في الإسناد، أي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له بتأويل، نحو:
قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)، أي اسأل أهل القرية، وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ).
وقولك: جرى النهرُ، وطلعت الشمس.
(ب) المجاز اللغوي: وهو قسمان: المجاز المرسل، والاستعارة.
المجاز المرسل
المجاز المرسل: استعمال اللفظ في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة غير المشابهة، نحو: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) عبّر بالأفئدة عن مجموعة من الناس، وهو مجاز مرسل علاقته الجزئية.
تقسيم المجاز المرسل بحسب علاقاته
المسوغ لاستعمال اللفظ لغير معناه الأصلي هو وجود علاقة ما بينهما، وعلاقات المجاز المرسل كثيرة أهمها:
(أ) السببية، وهي تسمية الشيء باسم سببه، نحو: له أيادٍ عليّ سابغةٌ، أي نعمٌ، فاستخدم الأيدي بدل النعم لأن الأولى سبب في الثانية.
(ب) المسبَّبِيّة، وهي تسمية الشيء باسم ما تسبب عنه ونتج، نحو: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَن يُنِيبُ) أي ينزل لكم من السماء مطرا، وعبر بالرزق عن المطر لأن الأول متسبب عن الثاني.
(ج) الجزئية، وهي التعبير بالجزء عن الكل، نحو: (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)، عبرت الآية بالرقبة عن المملوك، والرقبة جزء مهم منه، لأنّ بامتلاكها تتم السيطرة على الجسم كله.
(د) الكلية: وهو التعبير بالكل عن الجزء، نحو: (يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)، عبرت الآية الكريمة بالأصابع وهي أعضاء كلية عن الأنامل وهي أجزاء منها.
(هـ) المحلية: وهو إطلاق لفظ المحل وإرادة الحالّ فيه، نحو: (فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ). فالمدعوّ هم الناس في النادي.
(و) الحالّية، وهو إطلاق لفظ الحال على المكان نفسه، نحو: (إِنَّ الْأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) فقد استعمل (نعيم) وهو دال على أمر معنوي، لا يُحلّ فيه بدل مكانه وهو الجنة.
(ز) الآلية، وهو إطلاق لفظ الآلة للدلالة على أثرها، نحو: (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا). عبر عن القول باللسان لأنه آلته.
(ح) المجاورة، استخدام لفظ دال على شيء معين ليدل على مجاورِه، نحو قول عنترة:
فشَكَكْتُ بالرمح الرُّدَيْنيِّ ثيابَهُ ليس الكريمُ على القنا بِمُحرَّمِ
عبر بالثياب عما يليها من الجسد أو القلب.
(ط) اعتبار ما كان، وهو تسمية الشيء باسم ما كان عليه، نحو: (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)، استعمل لفظ اليتيم وهو يعني "الصغير الذي مات عنه أبوه" لمن بلغ سن الرشد.
(ي) اعتبار ما سيكون، وهو تسمية الشيء بما سيكون عليه، نحو (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا).
الاستعارة
الاستعارة: هي استعمال لفظ المشبه به للتعبير عن المشبه مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المشبه به، (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
إجراء الاستعارة: يقصد بإجراء الاستعارة تحليلها إلى عناصرها الأساسية، بتمييز كل من المشبه والمشبه به وبيان علاقة المشابهة، ونوع الاستعارة، وبيان نوع القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي. ففي المثال السابق تجرى الاستعارة على النحو التالي: شبه الكفر بالظلمات بجامع انعدام الهداية، وشبه الإيمان بالنور بجامع الاهتداء، ثم حذف المشبه، الكفر والإيمان، وأبقى بدلهما المشبه به، الظلمات والنور، على سبيل الاستعارة التصريحية (انظر تحت)، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هي القرينة الحالية.
أقسام الاستعارة باعتبار ذكر أحد طرفي التشبيه: تنقسم إلى:
(أ) استعارة تصريحية: وهي ما صرح فيها بذكر لفظ المشبه به (المستعار منه)، وحذف لفظ المشبه (المستعار له)، نحو: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فقد شبه الكفر بالظلمات والإيمان بالنور، بجامع عدم الهداية في الأول، ووجود الهداية في الثاني، وحذف المشبه (الكفر والإيمان) وأبقى بدله المشبه به (الظلمات والنور).
قال المتنبي مخاطبا ممدوحه وقد قابله:
لم أرَ قبلي من مشى البحر نحوه ولا رجلا قامت تعانقه الاُسْدُ
لقد شبهه أولا بالبحر بجامع العطاء والجود، وشبهه ثانيا بالأسد على سبيل الاستعارة التصريحية، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي لفظية هي إسناد الفعل (مشى) إلى (البحر)، وإسناد الفعل (عانق) إلى (الأسد).
(ب) استعارة مكنية: وهي ما ذكر فيها لفظ المشبه وحذف منها لفظ المشبه به وأبقي شيء من لوازمه، نحو: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ)، شبه الغضب بإنسان ثم حذف المشبه به وأبقى شيئا من خصائصه، هو السكوت على سبيل الاستعارة المكنية، وقرينتها المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هو إسناد الفعل (سكت) إلى لفظ (الغضب). وقال ابو ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية انشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ
شبه المنية بحيوان مفترس بجامع الإهلاك وحذف المشبه به (الحيوان المفترس) وأبقى شيئا من لوازمه وهو (الأظفار)، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي لفظية هي إسناد الفعل (أنشب) إلى لفظ (المنية). وقال الشاعر:
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
تقسيم الاستعارة باعتبار ذكر ما يلائم أحد طرفيها:
الاستعارة المطلقة: وهي التي لم تقترن بصفة تلائم المشبه أو المشبه به، نحو: قول الشاعر:
قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم طاروا إليهِ زُرافات ووِحْدانا
شبه الشر بحيوان مفترس وحذف لفظ المشبه به وأبقى لفظ (ناجذيه) دليلا عليه، ولم يذكر مع طرفي الاستعارة ما يلائم أيّاً منهما. ومن أمثلتها قول أعرابي في ذم الخمر "لا أشرب ما يشرب عقلي."
الاستعارة المرشحة: وهي التي يذكر معها ما يلائم المشبه به، وسميت مرشحة لأن فيها تقوية للاستعارة بسبب ألفاظ الترشيح التي تزيد التعبير تأكيدا على أن المشبه من جنس المشبه به، في نحو: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ) شبه الاختيار بالشراء وحذف المشبه وأبقى المشبه به وذكر ما يلائمه وهو (ربحت تجارتهم). وقال الشاعر:
إذا مالدهر جرّ على أناس كلاكلَه أناخ بآخرينا
شبه الدهر بجمل بجامع الثقل وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية وذكر في الاستعارة ما يلائم المشبه به وهو لفظ "أناخ".
الاستعارة المجردة: وهي ما ذكر معها ما يلائم المشبه، نحو:
يؤدون التحية من بعيد إلى قمر منَ الإيوان بادِ
شبه الممدوح بقمر وذكر معه ما يلائم المشبه وهو لفظ (من الإيوان).
وقد يجتمع الترشيح والتجريد في استعارة واحدة كما في قول الشاعر:
رمتني بسهمٍ ريشُه الكُحلُ لم يضِرْ ظواهر جلدي وهو للقلب جارحُ
شبه الطرف بسهم وذكر مع المشبه به ما يلائمه وهو (الريش) وذكر مع المشبه ما يلائمه وهو (الكحل).
ومن أنواع الاستعارات أيضا:
الاستعارة التمثيلية: وهي ما كان المستعار له (المشبه به) تركيبا لا لفظا مفردا كما مر معنا في الاستعارة التصريحية والاستعارة المكنية، ومن أمثلتها: (أيُحِبُّ أحدُكُم أنْ يأكلَ لحمَ أخيهِ ميْتاً فكرهتمُوه)، فقد شبهت حال من تناول عرض رجل من أصحابه بالغيبة كحال من شرع في أكل لحم أخيه الميت، بجامع الشناعة والفضاعة المتعلقة في هذين الفعلين.
الاستعارة التهكمية: هي ما نُزّل فيها التضاد منزلة التناسب لأجل التهكم والاستهزاء، نحو: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) استعير التبشير (وهو الإخبار بما يسر) للإنذار وهو الإخبار بما يسوء لغرض السخرية. وقال قوم شعيب له على سبيل السخرية: (يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). شبهوا السفه والغيّ (الذي ظنوه به جهلا) حلما ورشدا.