هل للعلم قيمة؟
في رحلة ترفيهية تربوية لأحدى مناطقنا، جلسنا جلسة حوارية مفتوحة أردنا من خلالها أن نطلع على كثير من الأفكار والمعطيات الشبابية، فسألني أحد تلاميذي قائلا: هل للعلم قيمة؟
فقلت:نعم إن له قيمة وأي قيمة، لقد ضرب شأوا بعيدا واحتل مكانة لا تدانى عند المشرع الإسلامي العظيم، فقد عني به القرآن الكريم أيما عناية، وأورد عددا من الآيات الكريمة في فضل العلم وأهله فقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر9
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }المجادلة11
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28
وقال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18
وعني به الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الكرام، وقد جاء عدد من الأخبار في فضل العلم والعلماء ، ومن تلك الأخبار:
1- الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما فعليه بالعلم)
2- وقال إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما صنع، ولمداد جرت به أقلام العلماء، خير من دماء الشهداء في سبيل الله)
3- وقال: فضل العلم خير من فضل العبادة)
4- وقال: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد)
5- وقال: ( من سلك طريقا يطلب فيه علما ، سلك الله به طريقا إلى الجنة)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام:
1- ( الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق)
2- وقال: ( يا كميل: العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق)
3- وقال: ( مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة) كتاب الأخلاق الإسلامية ص274
وقد عني أتباع أهل البيت عليهم السلام بالعلم والعلماء، واتجهوا فيه مختلف الجهات ودرسوا شتى العلوم الدينية والطبية والهندسية والكيميائية والأدبية، وتعمقوا فيها ونالوا الشهادات العليا والدرجات الرفيعة، وكتبوا في مختلف العلوم والآداب، فكان منهم الأطباء المهرة والمهندسون الكبار، والأدباء المبدعون والشعراء الحاذقون.
فقال هذا التلميذ: إن في بلادنا أطباء ومهندسين ومؤلفين ومفكرين أفذاذا وذوي شهادات علمية رفيعة، ومع ذلك لا أرى أحدا في المجتمع يقوم لهم إن حضروا في مجالسنا، أو يعنى بزيارتهم، أو يحترمهم، فما أراه أنهم يعاملون بنفس المعاملة التي تعطى لعامة الناس من فلاحين وحدادين وخضارين ونجارين، بل يعاملون كأي شاب مقصر وعاطل عن العمل، ولا يحضر مجالس الذكر.
فقلت له اسمع يا بني:
إن العرف الاجتماعي الذي نعيشه قد صير الأمة إلى فئتين لا ثالث لهما، وهما:
الفئة الأولى: المعممون أي من يلبسون العمامة أو ما بحكمها من عباءة أو قباء أو صاية مثلا، سواء علموا شيئا أم لم يعلموا.
الفئة الثانية: وهم بقية البشر، سواء كانوا أطباء أم مهندسين أم شعراء أم معلمين.
والفئة الأولى هي التي يعتبرها العرف الاجتماعي من حوزويين وأكاديميين ومزارعين ومعلمين وغيرهم، أنهم هم أهل العلم والفضل والدين والعطاء، ويلزمنا احترامهم وتقديرهم وهم المعنيون بما ورد في القرآن الكريم مما مر عليك ذكره في مدحهم والثناء عليهم، وما ورد في أخبار أهل البيت عليهم السلام.
والفئة الثانية هم عوام الناس، وإن كانوا ذوي شهادات علمية، أو كانوا علماء في الطب والهندسة والأدب والنحو والتفسير والشعر، وغير ذلك من العلوم، فهم عوام لا ينطبق عليهم لفظ ( علماء) أبدا.
لكن تلميذي النجيب لم يسكت على هذا الحال، وإنما أردف قائلا:
لقد وجدت شبابا درسوا الفقه والأصول والنحو والصرف وغيرها من الدراسات الحوزوية، وقطعوا شوطا بعيدا في هذه العلوم الدينية، حيث بدأوا يحضرون البحث الخارج، ومع ذلك لا نرى لهم مكانة في المجتمع، وهم حوزويون، فلماذا؟
فقلت له: نعم إنما ذكرته صحيح وواقع، ولكني أقول بأن العرف الاجتماعي قضى بأن قيمة الإنسان ليست في دراسته وتحصيله العلمي أو عطائه الفكري وإنما يكمن مقامه في شيء آخر بينه العلامة الكبير الشيخ ميثم البحراني في كتبه ونقله عنه كل من كتب عنه.
فقال التلميذ:أخبرني فأنا مشتاق لما قال الشيخ البحراني:
فقلت له:كتب إليه بعض الفضلاء من أهل الحلة وهو في البحرين: العجب منك مع شدة مهارتك في جميع العلوم والمعارف، وحداقتك في تحقيق الحقائق وإبداع اللطائف، قاطن في ظلول الاعتزال، ومخيم في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال.........إلخ
فكتب في جوابهم هذين البيتين:
طلبت فنون العلم أبغي بها العلى فقصر بي عما سموت به القل
تبين لي أن المحاسن كلــــــــها فروع وأن المال فيها هو الأصل
فلما وصل إليهم الكتاب، كتبوا إليه: إنك أخطأت في ذلك خطأ ظاهرا، وحكمك بأصالة المال عجب...إلخ
فكتب إليهم ثلاثة أبيات لبعض الشعراء، وهي:
قد قال قوم بغير علم ما المرء إلا بأكبريه
فقلت قول امرئ حكيم ما المرء إلا بدرهميه
من لم يكن درهم لديه لم يلتفت عرسه إليه
ثم إنه عزم السفر إلى العراق لزيارة الأماكن المقدسة، وفي أحد الأيام لبس أخشن ثيابه، ودخل بعض المدارس المشحونة بالعلماء، فسلم عليهم فرد عليه بعض، ولم يجبه آخرون، فجلس في صف النعال ولم يلتفت إليه أحد، فدار بين العلماء البحث في مسألة عويصة، فأجاب عنها بتسعة أجوبة دقيقة جميلة، فتوجه إليه بعضهم مستهزئا، وقال له: يا خليلك أخالك طالب علم؟ ثم بعد ذلك أحضروا الطعام ولم يطعموه معهم بل أفردوا له شيئا قليلا من الطعام في صحن، واجتمعوا هم على المائدة، فلما انقضى المجلس قام، وعاد في اليوم التالي إليهم وقد لبس ملابس فاخرة بهية لها أكمام واسعة، وعلى رأسه عمامة كبيرة، فلما قرب منهم سلم عليهم،فقاموا تعظيما له، واستقبلوه تكريما به،واجتهدوا في توقيره،وأجلسوه في صدر المجلس المشحون بالعلماء والأفاضل والمحققين، ولما شرعوا في البحث تكلم معهم بكلمات عليلة لا وجه لها، فقابلوا كلماته العليلة بالتحسين وأذعنوا له على وجه التعظيم، ثم حضرت المائدة، فبادروا إليه بأنواع الطعام باحترام وأدب، فألقى الشيخ ( قدس الله روحه) كمه في ذلك الطعام وقال: كل يا كمي، كل يا كمي.
تعجب الحاضرون واستغربوا من فعله هذا ثم استفسروه عن معنى ذلك فقال: إنكم أتيتم بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة، لا لنفسي القدسية اللامعة، وإلا فأنا صاحبكم بالمس، لم أر مكنكم تكريما ولا تعظيما، مع أني جئتكم بهيئة الفقراء وسجية العلماء، واليوم جئتكم بلباس الجبارين، وتكلمت بكلام الجاهلين، فقد رجحتم الجهالة على العلم، والغنى على الفقر. ( أنوار البدرين ج1 ص195
تبسم التلميذ وقال:
إذا كان الموجودون في المجلس علماء وفضلاء ومحققين كما ذكر فكيف لم يميزوا الإجابات العلمية من الإجابة الأخرى؟
فقلت له:
العالم يميز الإجابة العلمية من غيرها،وأعتقد أنهم ميزوا إجاباته الأولى عن الثانية، ولكن الذي يبدو أن قيمة المرء ليست بعلمه ولا بعمله، وإنما قيمته بلباسه وهيئته، وكلنا يلحظ ذلك واضحا في المجالس والحسينيات والمساجد والديوانيات وغيرها.
فهل تبين لك من خلال هذا الحوار مكمن قيمة المرء؟
فقال الفتى النجيب بكل مرارة: نعم عرفت أن العلم وحده لا قيمة له.
م
ن
ق
و
ل