الحمد لله غافر الذنوب،وساتر العيوب،والصلاة والسلام على إمام المستغفرين، وقدوة الناس أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد جاء في الحديث المرفوع عن أبي هريرة رضي الله عنه في فضل شهر رمضان ((ويغفر فيه إلا لمن أبى)).
قالو: يا أبا هريرة ومن يأبى قال: “يأبى أن يستغفر الله“.
معاشر الصائمين: الاستغفارُ: طلبُ المغفرةِ، وهي سَتْرُ الذنوبِ، والعفوُ عنها، ووقايةُ شرِّها.
والاستغفارُ من أجلّ القربات، وأنفعِ الطاعات، وأعظمِ موانع إنفاذ الوعيد.
و الاستغفارُ ختامُ الأعمال الصالحة؛ فيختم به الصلاةُ، وقيامُ الليل، والحجُّ.
ويختم به المجالس؛ فإن كانت ذكراً كان كالطابَعِ عليها، وإن كانت لغواً كان كفارةً لها.
ولما وفّى نبينا صلى الله عليه وسلم تبليغَ الرسالةِ والجهادِ في سبيل الله،وأقَّر الله عينه بعز الإسلام، وظهور المسلمين، ودخول الناس في دين الله أفواجاً_أمره الله بالاستغفار؛ فكان التبليغُ والجهاد عبادةً قد أكملها، وأداها، فشُرِعَ له الاستغفار عَقِيبها.
وبالجملة فهذه حالُ العبدِ مع ربه في جميع أحواله؛ فهو يعلمُ أنه لا يوفِّي هذا المقامَ حقَّه؛ فهو أبداً يستغفر عَقِبَ كلِّ عمل صالح، فكلُّ أحدٍ محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، ولا سبيل إلى النجاة بدون ذلك.
ولذلك ينبغي أن يُخْتَم شهرُ رمضانَ بالاستغفار؛ فهو يكمِّل الصيام، ويرقِّع ما تخرَّق منه باللغو، والرفث.
قال ابن رجب رحمه الله: “ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقِّعه؛ فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقَّع فليفعل“
وعن ابن المنذر رحمه الله قال: “معنى ذلك: أن الصيامَ جُنَّةٌ من النار ما لم يخرِقْها، والكلام السيِّئ يَخْرِقُ هذه الجُنة، والاستغفار يرقِّع ما تخرَّق منها“.
“وكتب عُمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار، وصدقة الفطر “.
أيها الصائمون: مِنَ الناسِ مَنْ لا يعرف مِنْ موجبات سخط الله، وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها؛ فإذا تابوا من عمل سييء فإنما يتوبون منها؛ فهذه حال عامة المؤمنين.
أما خاصة المؤمنين فحالهم أكملُ وأتم؛ فهم يعرفون أن لكل عمل سيِّيء لوثةً في النفس تُبْعِدُ بها عن الكمال، ويرون أن لكل عمل صالح أثراً في النفس يقربها من الله _عز وجل_ والتقصير في الصالحات يعدُّ عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس، وتبعدها عن الله؛ فالنفس إذا قصَّرت فيها تتوب؛ وإذا استمرت لم تأمنْ من النقائض والعيوب.
ويختلف اتهامُ هؤلاء لأنفسهم باختلاف عِلْمِهم بصفات النفس،وما يعرِضُ لها من الآفات في سيرِها، وعلمهم بكمال الله، ومعنى القرب منه،واستحقاق رضوانه.
ولهذا ترى هؤلاء الكمّلِ يسارعون في الخيرات،ويبادرون إلى التوبة والاستغفار؛ لشعورهم بالنقص في العمل والتقصير في حق رب الأرض والسماوات.
أيها الصائمون:للاستغفار فضائلُ جمَّة،وأسرار بديعةٌ،وبركاتُ متنوعة، فمن ذلك أنه طاعة لله، وأنه سببٌ لمغفرةِ الذنوب، ورفعةِ الدرجات، ونزولِ الأمطار، والإمدادِ بالأموال والبنين (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً @ يرسل السماء عليكم مدراراً @ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا)
والاستغفارُ سببٌ في زيادة القوة والمتاع الحسن، ودفع البلاء، وحصول الرحمة.
قال_تعالى_: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كلّ ذي فضل فضله).
وقال على لسان هود_عليه السلام_: (وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم) .
وقال_عز وجل_: (لو لا تستغفرون الله لعلكم ترحمون).
قال لقمان_عليه السلام_لابنه: “يا بني عوّد لسانَك الاستغفارَ،فإن لله ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيهن سائلاً“.
قالت عائشةُ_رضي الله عنها_:“طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً“.
وقال أبو المنهال رحمه الله: “ما جاورَ عبدٌ في قبرِه من جارٍ أحبَّ إليه من استغفارٍ كثير“.
وقال الحسنُ رحمه الله: “أكثروا من الاستغفار؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة“.
وقال قتادة رحمه الله: “إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم؛ فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار“.
وقال بعضهم: “فمن أهمّتهُ ذنوبُه أكثر لها من الاستغفار“.
ومما يدل على عِظم شأن الاستغفار أن الله_عز وجل_جمع بينه وبين التوحيد في قوله: (فاعلم أنه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك).
وفي بعض الآثار أن إبليس قال: “أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ: لا إله إلا الله، والاستغفار“.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “شهادةُ التوحيدِ تفتح بابَ الخير،والاستغفارُ يغلقُ بابَ الشر“.
معاشر الصائمين: للاستغفار صيغ عديدة، وأفضلُها أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثنِّى بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
ومن صيغ الاستغفار: ((استغفر اللهَ الحيَّ القيومَ وأتوب إليه)).
قال_عليه الصلاة والسلام_: ((من قاله غُفر له وإن كان فر من الزحف))
رواه أبو داود، والترمذي، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب.
وفي كتاب عمل اليوم والليلة للنسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله كيف نستغفر قال: ((قل: اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم)).
وفيه_أيضا_عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “ما رأيت أحداً أكثر أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم“.
وعن ابن عمر_رضي الله عنهما_قال: “إنْ كنا لنعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائةَ مرةٍ يقول: ((رب اغفر لي وتب عليّ؛ إنك أنت التواب الرحيم)) “.
رواه أحمد، وأبو داود، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن حبّان
ومن أخصر الصيغ وأشهرها: أستغفر الله، ورب اغفر لي.
معاشر الصائمين، هذا هو الاستغفار، وهذا فضله، وتلك صيغه، فما أحرانا في نهاية شهرنا أن تلهج ألسنتنا بالاستغفار، وما أجمل أن يكون الاستغفار لنا خير دثار فيما نستقبله من أيام.
اللهم تقبل صيامنا، وتجاوز عن تقصيرنا وتفريطنا، وصلّ اللهم وسلّم على نبينا محمد.
فضيلة الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد