"الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى" هذه المقولة صحيحة إلى حد كبير، وتجسد موقف بعض البلاد العربية التي عافاها الله من شرور الاختلاط ومفاسده الكثيرة، وعلى الرغم من هذا لا يرى البعض هذه النعمة، ويصرون على المبالغة في الإعراض عن تجارب الآخرين، ويجتهدون في خوض التجربة مهما كانت، ويصرون على البداية من الصفر وليس من حيث انتهى الآخرون!
ففي الوقت الذي تسعى فيه دول الشرق والغرب ـ بدوافع تنموية بحتة ـ إلى التخلص من الاختلاط باعتباره قيدا كبيرا على نهضة هذه المجتمعات، نجد الصورة معكوسة في بعض بلداننا العربية والإسلامية، وهي حالة تعكس مدى الاندفاع لمخالفة السائد كما تعد دلالة واضحة على العقلية الاستسهالية الانطباعية في الحكم على الأشياء، ولا تعطيها الوقت الكافي من التفكير والتمحيص قبل اتخاذ موقف ما!
فبالرغم من الإحصائيات والأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام حول رغبة المجتمعات الغربية والشرقية في تفعيل تجربة الفصل بين الجنسين في التعليم بعدما أثبتت نجاحها، نجد أصواتا تنادي بضرورة فتح المجال للاختلاط بدعوى إفساح المجال أمام شرائح المجتمع للانفتاح على العالم، والدخول إلى عالم التحضر والمدنية!
وحين نجد دعاة الاختلاط في دعاويهم يتجاهلون تجارب البلاد الكبيرة من حولنا في التخلي عن الاختلاط، فهذه الصين الدولة الشيوعية التي تقدس المادة ولا ترى إلا المحسوسات؛ بدأت في اتخاذ خطوات عملية لمنع الاختلاط في التعليم، وسط تأييد من أولياء الأمور والمسؤولين، لا لشيء إلا لما أكدته الدراسات أن الفصل بين الجنسين سيسهم في نهضة مجتمعهم، ويحسن من التحصيل العلمي للطلاب من الجنسين، ويحد من الجرائم الأخلاقية.
وهذه الهند تلك البلاد المفتوحة والتي يعيش فيها العديد من أصحاب الديانات والطوائف والمذاهب المختلفة، يصدر علماؤها فتوى تحث المسلمات على تجنب الاختلاط في العمل والتقيد بالحجاب الشرعي.
هذه الفتوى صدرت عن جامعة دار العلوم وجاء فيها: "لا يجوز للمرأة المسلمة العمل في أي مؤسسة حكومية أو خاصة تسمح بالاختلاط بين الرجال والنساء في مجال العمل، أو أن تتحدث النساء إلى الرجال دون حجاب".
والعجيب أن أصحاب دعوات الاختلاط في بعض البلاد العربية يعرفون تماما الحراك العالمي في موقفه من الاختلاط، ويعرفون حقيقة الدراسات التي تبثها وسائل الإعلام بشكل شبه يومي، وربما تنافسوا في الحديث عنها وفي تحليلها باعتبارها ظواهر جديدة في مجتمعات ملت الحضارة والمدنية!
أصحاب دعوات الاختلاط يعلمون أكثر من غيرهم أن العالم لديه توجه قوي للتخلي عن الاختلاط، ليس بدوافع دينية أو أخلاقية؛ وإنما بدوافع تنموية كما أشرنا، وهم يعلمون أن العديد من الدول العربية المبتلاة بالاختلاط تحاول التخلص منه بشتى الطرق، فهل نمنح أنفسنا الفرصة لتأمل ما نحن فيه من نعم ليست عند غيرنا، وهل نعد ما تسعى إليه الصين وغيرها من دول العالم في الفصل بين الجنسين خطوة جادة على طريق كان لنا السبق فيه منذ وقت مبكر؟ وهل نقدم من أنفسنا القدوة والمثل للعالم المشتاق للأمن في ظلال الفضيلة؟